سوريا عند مفترق طرق: تحديات بناء الدولة في مرحلة ما بعد الصراع

تمر سوريا اليوم بمرحلة انتقالية دقيقة وحاسمة، تمثل لحظة تاريخية فارقة بعد انتهاء صراع مدمر امتد لأكثر من عقد. تقف السلطات الجديدة أمام تحديات جسيمة لإعادة بناء مؤسسات دولة كانت على شفا الانهيار، وتحقيق استقرار مستدام في بلد مزقته الحرب والانقسامات العميقة. إن مستقبل الدولة السورية الناشئة رهنٌ بقدرتها على تحويل نموذج “الحوكمة الهجينة” الاضطراري إلى عقد اجتماعي دائم، وهو ما يستحيل دون تحقيق اختراق حاسم في معضلة الأمن والعدالة التي تعرقل بدورها استعادة الشرعية الدولية اللازمة للبقاء.

يتوقف مسار الدولة السورية المستقبلي على قدرتها على إدارة ثلاثة ملفات رئيسية مترابطة بشكل وثيق. أولاً، بنية الحكم الداخلية، وتحديداً كيفية الموازنة بين السلطة المركزية والمبادرات المحلية التي نشأت في خضم الفوضى. ثانياً، معضلة الأمن والمصالحة المجتمعية، التي تتطلب نزع فتيل التوترات الطائفية، وإرساء العدالة، واستعادة ثقة المواطنين بالمؤسسات. ثالثاً، إعادة التموضع على الساحة الدولية، وهو ما يستلزم تقديم ضمانات ملموسة لكسب الشرعية والدعم الخارجي. القسم التالي سيتناول بالتفصيل النموذج الإداري غير التقليدي الذي بدأ بالتشكل على الأرض كاستجابة لهذه التحديات.

1. الحوكمة الهجينة: بين سلطة المركز ومبادرات المجتمع

تُعد بنية الحكم المحلي حجر الزاوية في تحديد مستقبل الاستقرار في سوريا. لقد ورثت السلطات الجديدة دولة مفككة ومؤسسات مركزية ضعيفة تعاني من شح حاد في الموارد البشرية والمادية. هذا الواقع حال دون فرض نموذج حكم مركزي صارم، وفتح الباب أمام ظهور أشكال حكم مبتكرة تجمع بين التوجيه الرسمي والمبادرات الشعبية، مما أدى إلى بروز ما يمكن تسميته “نموذج الدولة الهجين”. في ظل الفراغ الإداري والأمني الذي أعقب التغيير السياسي، بادرت المجتمعات المحلية في مختلف أنحاء البلاد، مدفوعة بالحاجة الماسة للحفاظ على الخدمات الأساسية والسلم الأهلي، إلى إنشاء هياكلها الخاصة. شملت هذه الهياكل المجالس المحلية المنتخبة حديثاً في مناطق كانت معاقل للمعارضة سابقاً، ومجالس العائلات الراسخة في مدن أخرى مثل مدينة “التل”، وحتى المجالسالطائفية التي وسعت دورها من اجتماعي إلى إداري، كما هو الحال مع المجلس الإسماعيلي في مدينة “سلمية”.

بدأت هذه الهياكل المحلية تندمج تدريجياً، وبدرجات نجاح متفاوتة، مع الإداريين الذين عينتهم السلطة المركزية، والذين يُعرفون بـ”مديري المناطق”. يعكس هذا الاندماج مقاربة براغماتية تجمع بين التوجيه من القمة والمبادرات المنطلقة من القاعدة. يقوم مديرو المناطق بدور حلقة الوصل بين المجالس المحلية ومكاتب المحافظين والوزارات المركزية، مع التركيز في البداية على التنسيق الأمني وتقييم الاحتياجات. من اللافت أن هذه الظاهرة لم تقتصر على مناطق المعارضة السابقة، بل امتدت لتشمل مجتمعات كانت موالية للنظام، بما في ذلك مجتمعات الأقليات. ففي مدينة “القدموس” ذات الغالبية الإسماعيلية، وفي بلدة “الصبورة” ذات الغالبية العلوية، تشكلت مجالس محلية جديدة لسد الفجوة التي خلفتها مؤسسات الدولة المنهارة. يثبت هذا الانتشار أن نموذج الحوكمة الهجين هو استجابة عملية لواقع ما بعد الصراع، وهو عابر للانقسامات السياسية والطائفية التي سادت خلال الحرب.

لكن تطبيق هذا النموذج لم يكن متكافئاً، إذ لم تبادر مجتمعات محلية أخرى، لا سيما في المناطق العلوية، إلى بناء هياكل حوكمة خاصة بها، نظراً إلى “قلّة خبرتها في الإدارة الذاتية والنشاط المدني، وخشيتها من إثارة حفيظة المسؤولين المحليين” المُعيَّنين من الحكومة. هذا الخلل في التطبيق لم يكن مجرد ثغرة إدارية، بل تحول إلى مصدر مباشر لزعزعة الاستقرار. إن هذا النموذج، رغم إيجابياته، يواجه تحدياً وجودياً يتمثل في الفوضى الأمنية والانقسامات المجتمعية العميقة التي تهدد بتقويض أي تقدم إداري، والتي تفاقمت بسبب عجزه عن دمج جميع مكونات المجتمع بشكل فعال.

2. معضلة الأمن والمصالحة: جراح الماضي وتحديات الحاضر

يشكل تحقيق الأمن وإرساء العدالة الركيزتين الأساسيتين لنجاح أي عملية انتقال سياسي. تواجه الحكومة السورية الجديدة إرثاً ثقيلاً من الانقسامات الطائفية الحادة، وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة، وغياب شبه كامل للثقة بين المواطنين والمؤسسات الأمنية. إن العجز عن فرض احتكار الدولة للعنف ليس مجرد عارض، بل هو الخلل الهيكلي الأساسي الذي يقوض كافة جهود بناء الدولة، إذ إن تفويض الأمن لفصائل معارضة سابقة غير منضبطة يحول أداة الاستقرار المفترضة إلى مصدر مباشر لزعزعته، مما فاقم التوترات في المناطق ذات الحساسية الطائفية، وأدى إلى انتهاكات غذّت مشاعر الخوف والانتقام.

تتجلى خطورة هذا الخلل في الفشل في دمج الأقليات، وخاصة العلويين، في الهياكل الأمنية والحوكمة المحلية الجديدة. لقد أدى هذا الإقصاء، سواء كان مقصوداً أم ناتجاً عن صعوبات عملية، إلى تعميق شعور هذه المجتمعات بالخوف وانعدام الثقة. وقد استغلت فلول النظام السابق هذا الوضع لتأجيج الفتنة وتصوير الحكومة الجديدة على أنها سلطة إقصائية، مما خلق بيئة خصبة للاحتكاكات الأمنية وأعمال العنف، كما تجلى في مجازر الساحل. وقد تفاقمت الأزمة الأمنية بسبب تعثر مسار العدالة الانتقالية؛ فالنظام القضائي الرسمي يعاني من انهيار بنيته التحتية المادية ونقص حاد في الكوادر، مما أدى إلى انتشار ظاهرة “العدالة البديلة”. ورغم أن هذه النماذج خففت الضغط عن المحاكم الرسمية، إلا أنها تمثل سيفاً ذا حدين، حيث تقوض احتكار الدولة للقانون، وفي حالات مثل المحاكم الدينية في بانياس، تتحدى سلطة الحكومة بشكل مباشر وتخلق بؤر توتر قابلة للاستغلال. وفي حالات أخرى، تحولت إلى عنف انتقامي قائم على “الأخذ بالحق باليد”، مما يهدد بإشعال دوامة جديدة من العنف الأهلي.

يكشف حجم العنف الذي استهدف الأقليات بعد سقوط النظام عن عمق الجراح المجتمعية. ففي مارس/آذار 2025، وقعت مجازر في منطقة الساحل استهدفت مدنيين علويين؛ ووفقاً لبيانات لجنة تقصي الحقائق الحكومية، بلغ عدد القتلى المدنيين 1,426 شخصاً. كما تعرضت الطائفة الدرزية لمجازر مروعة في محافظة السويداء في يوليو/تموز 2025، حيث قُتل ما لا يقل عن 814 شخصاً، في حين تشير مصادر محلية في السويداء إلى مقتل ما يصل إلى 2,000 شخص، وتقدر الأمم المتحدة العدد بألف قتيل على الأقل. كذلك، تعرض المسيحيون لسلسلة من الهجمات بلغت ذروتها في هجوم انتحاري استهدف كنيسة في دمشق في يونيو/حزيران 2025 وأسفر عن مقتل 25 شخصاً على الأقل وإصابة ثلاثة وستين آخرين. إن هذه التحديات الأمنية الداخلية ليست معزولة عن السياق الخارجي، فقدرة الدولة على بسط سيطرتها واستعادة ثقة مواطنيها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرتها على إعادة بناء علاقاتها مع المجتمع الدولي.

3. إعادة الانخراط الدولي: بين مكافحة الإرهاب واستعادة الشرعية

إن تحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا مرتبط بشكل وثيق بقدرتها على إعادة بناء علاقاتها مع القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ويتطلب هذا المسار من دمشق تقديم ضمانات وتعهدات ملموسة في ملفات استراتيجية حساسة، أهمها مكافحة الإرهاب. إن رفع اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب لا يمثل هدفاً دبلوماسياً فحسب، بل هو مفتاح ضروري للحصول على الدعم الاقتصادي والأمني اللازم لإعادة بناء الدولة وسد الثغرات التي تغذي حالة عدم الاستقرار. وقد اتخذت الحكومة الجديدة خطوات إيجابية ملموسة، تمثلت في التضييق على أنشطة إيران ووكلائها، والتعاون مع واشنطن في ملاحقة تنظيم الدولة، وصولاً إلى تفكيك “هيئة تحرير الشام”، وهو ما اعترفت به وزارة الخارجية الأمريكية عبر رفع تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO) في يوليو/تموز.

على الرغم من هذه الإجراءات، لا تزال هناك ثغرات ونقاط ضعف كبيرة في الأداء الأمني السوري. فقدرة الدولة على منع إيران وحزب الله من استغلال أراضيها بشكل كامل لا تزال غير مثبتة، والتعاون في ملف تنظيم الدولة لا يزال محدوداً، كما أن الحكومة لم تتوصل بعد إلى خطة واضحة لتولي مسؤولية معسكرات احتجاز عناصر التنظيم وعائلاتهم. إضافة إلى ذلك، يثير ملف دمج المقاتلين الأجانب السابقين في الهياكل العسكرية الرسمية قلقاً دولياً، حيث تطالب واشنطن بشفافية كاملة وعملية تضمن تخليهم الحقيقي عن ماضيهم. هذا الوضع يخلق حلقة مفرغة: فالثغرات الأمنية تمنع رفع التصنيف كدولة راعية للإرهاب، بينما رفع التصنيف هو الذي سيمكن الحكومة من الحصول على المساعدات الاقتصادية والأمنية الضرورية لتعزيز قدراتها وسد هذه الثغرات، مما يخلق حلقة إيجابية محتملة من الدعم الدولي المشروط بتحقيق تقدم ملموس على الأرض.

4. نظرة مستقبلية: سيناريوهات المسار السوري

تقف سوريا عند مفترق طرق تاريخي، وتواجه تحديات كبرى سترسم مستقبلها لعقود. يتلخص جوهر المرحلة الانتقالية في ثلاثة محاور مترابطة: بناء نموذج حكم فعال يجمع بين المركزية والمشاركة المحلية، وتحقيق الأمن والمصالحة لمعالجة جراح الماضي العميقة، وكسب الشرعية والدعم الدولي للخروج من العزلة. وبناءً على كيفية تعامل السلطات الجديدة مع هذه الملفات، يمكن تصور مسارين رئيسيين لمستقبل البلاد.

  • السيناريو الإيجابي (الاستقرار التدريجي): تنجح السلطات في إضفاء الطابع المؤسسي على نموذج “الحكم الهجين”، مما يعزز الاستقرار المحلي. وفي موازاة ذلك، تعمل بجدية على دمج الأقليات في القطاع الأمني، وتطلق عملية عدالة انتقالية شاملة وشفافة لبناء الثقة المجتمعية. على الصعيد الخارجي، تفي دمشق بالتزاماتها في مكافحة الإرهاب، مما يؤدي إلى رفع العقوبات تدريجياً وإعادة انخراطها في المجتمع الدولي، وهو ما يفتح الباب أمام المساعدات الضرورية للانتعاش الاقتصادي.
  • السيناريو السلبي (استمرار عدم الاستقرار): تفشل الدولة في بسط سيطرتها على الفصائل المسلحة غير المنضبطة، وتتفاقم التوترات الطائفية بسبب غياب العدالة الحقيقية واستمرار أعمال العنف الانتقامي. يؤدي هذا الفشل إلى فقدان ثقة المجتمع الدولي، فتبقى سوريا معزولة ومصنفة كدولة راعية للإرهاب، مما يحرمها من الدعم الخارجي ويعمق أزمتها الاقتصادية. في هذا السيناريو، تتجه البلاد نحو حالة من عدم الاستقرار المزمن والتفكك بحكم الأمر الواقع.

لتعزيز فرص نجاح السيناريو الإيجابي، يجب على السلطات الجديدة تبني مجموعة من السياسات الاستراتيجية الحاسمة: أولاً، إعطاء الأولوية القصوى لبناء الثقة مع جميع مكونات المجتمع، وضمان تمثيلها العادل ودمجها الفعال في الهياكل الأمنية المحلية. ثانياً، تسريع عملية العدالة الانتقالية الشفافة لكسر دوامة العنف الانتقامي. ثالثاً، إضفاء الطابع المهني على المؤسستين الأمنية والعسكرية لبناء قوة وطنية موحدة تتجاوز الولاءات الفصائلية. رابعاً، الانخراط بمرونة وبراغماتية مع المجتمع الدولي لإثبات الجدية في معالجة الملفات الأمنية الحساسة.