- يناير 16, 2025
- الباحث: محمد غازي
- التصنيفات: السياسة العربية, الشؤون العسكرية والأمنية, الطاقة والاقتصاد, انتشار الأسلحة
في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، تبرز أزمة متشابكة تؤثر على استراتيجية “محور المقاومة” التي تبنتها الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإيرانية والتي تعتمد على تداخل جوانب متعددة تشمل المجال العسكري والاقتصادي والثقافي والديني. ومن بين أبرز هذه التطورات، يأتي سقوط النظام السوري، الذي لم يكن مجرد تغير في الخريطة السياسية في سوريا، بل شكل ضربة استراتيجية عميقة ألقت بظلالها على مصالح إيران في عدة دول رئيسية من ضمنها العراق.
في هذا الإطار، يشكل العراق عنصراً محورياً في شبكة النفوذ الإيراني، إذ كان يعد وسيلة حيوية لتمكين طهران من تطبيق استراتيجيتها الإقليمية، سواء من خلال دعم الجماعات المسلحة أو تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية. ومع تحول المشهد بعد الأحداث الأخيرة في سوريا، يتضح أن الدمار الذي لحق بما اعتبر من ركائز “محور المقاومة” يمتد ليؤثر بشكل مباشر على العراق، مما يزيد من التحديات التي تواجهها إيران في تأمين مصالحها الإقليمية.
1. تداعيات انهيار النظام السوري على استراتيجية “محور المقاومة”
شهدت إيران استثماراً كبيراً على مدى أكثر من عقدين في دعم النظام السوري، الذي كان بمثابة العمود الفقري لاستراتيجيتها المتعددة الأوجه. فقد كانت سوريا المسار الذي تعتمد عليه إيران لتزويد حلفائها بالمستلزمات العسكرية واللوجستية، إضافةً إلى كونه حلقة وصل حيوية للتفاعل مع الأبعاد الاقتصادية والثقافية والدينية للمحور. إلا أن سقوط النظام السوري لم يؤثر على الوجود الإيراني في سوريا فحسب، بل ألحق أضراراً جسيمة بمصالحها في دول أخرى مثل العراق ولبنان واليمن. وقد أثرت هذه الخسارة على الثقة الداخلية بين الجماعات المسلحة التي تُعتبر جزءاً من المحور، مما أسفر عن حالة من الإحباط وخيبة الأمل داخل الهياكل المرتبطة بالنفوذ الإيراني.
2. تأثير التطورات السورية على العراق والنفوذ الإيراني فيه
يُعد العراق بمثابة السوق الأساسية والقناة الحيوية التي تربط إيران بمنطقته الأوسع، إذ يعتمد نجاح استراتيجية “محور المقاومة” على قدرته على الحفاظ على وجود قوي ومؤثر في بغداد. ومع ذلك، يظهر جلياً أن الأحداث الأخيرة في سوريا تُحدث تأثيراً مضاعفاً على العراق من الناحيتين السياسية والاقتصادية:
من الناحية السياسية والأمنية:
كان العراق يعتبر بمثابة قاعدة لتمكين إيران من دعم وتوجيه الجماعات المسلحة والفصائل السياسية التي تتبنى الأجندة الموالية لطهران. إلا أن فقدان النظام السوري كحليف استراتيجي يؤدي إلى انقطاع مسارات التزويد والتنسيق العسكري بين إيران وهذه الجماعات، مما يضعف قدرتها على التحكم في المشهد الداخلي العراقي. كما أن الأحداث السورية أثارت حالة من التشاؤم وعدم الثقة بين الفصائل المسلحة في العراق، الأمر الذي قد ينجم عنه إعادة تقييم طبيعة العلاقات السياسية والأمنية التي تربط هذه الجماعات بطهران.
من الناحية الاقتصادية:
تعتمد إيران على قنوات اقتصادية ترتبط بتبادل المواد والخدمات مع العراق، بالإضافة إلى الاعتماد على تدفقات تجارية ومشروعات مشتركة تُعزز من قدرتها على تحييد تأثير العقوبات الدولية. وفي ظل الظروف الراهنة، ومع تراجع النظام السوري كمحور للنقل والإمداد، قد تتأثر خطوط الإمداد والتواصل الاقتصادي بين إيران والعراق، ما يزيد من الضغوط على الاقتصاد الإيراني الذي يواجه تحديات داخلية وعقوبات خارجية.
3. الاستجابة الإيرانية: رسائل وتحركات وسط ضغوط داخلية وإقليمية
لم تكن ردود فعل القيادة الإيرانية وبخاصة تصورات المرشد الأعلى وآية الله خامنئي مجرد بيانات تقنية، بل شكلت رسائل موجهة لكل من الشعب الإيراني والجماعات المسلحة تحت مظلة “محور المقاومة”. ففي خطاب ألقاه خامنئي في ديسمبر 2024، تم توجيه اللوم إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، مع إشارة ضمنية إلى دور بعض الدول المجاورة، محاولاً بذلك تبرير ما حدث في سوريا وحشد الدعم الداخلي للتغلب على موجة التشاؤم.
وقد ركزت هذه الرسائل على أولويتها الاستراتيجية في “كبح ردود الفعل الداخلية” واحتواء المشاعر السلبية بين الجماعات المسلحة، في ظل ما يُعتبر من ضربة استراتيجية أثرت على رصيد النفوذ الإيراني. وتأتي هذه التحركات في وقت حساس يُظهر فيه الشعب الإيراني غضباً وخيبة أمل بسبب النتائج الوخيمة للاستثمارات الاقتصادية والعسكرية في سوريا، وهو ما قد ينعكس سلباً على تقييم العلاقات مع الجهات الشريكة في العراق.
4. السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الإيرانية-العراقية
يتباين المسار المستقبلي للعلاقات الإيرانية في العراق ضمن عدة سيناريوهات، يجب مراقبتها عن كثب:
سيناريو التراجع التدريجي للنفوذ:
مع تفاقم الضغوط الداخلية والإقليمية، قد تشهد إيران انخفاضاً تدريجياً في قدرتها على إدارة النفوذ في العراق، مما يتيح لجهات محلية وإقليمية أخرى فرصاً للتدخل وإعادة رسم الخطوط السياسية في بغداد.
سيناريو محاولات إعادة الهيكلة والتكيف:
من المحتمل أن تسعى القيادة الإيرانية إلى تعديل استراتيجيتها في “محور المقاومة” لتعويض الخسائر، عبر تعزيز القنوات الدبلوماسية والاقتصادية مع العراق وتطوير أساليب جديدة لتقديم الدعم لمجموعاتها المؤيدة. وقد يشمل ذلك إعادة النظر في آليات التواصل مع الجهات السياسية والعسكرية العراقية وتوظيف موارد اقتصادية لمواجهة تأثير العقوبات والتحديات الإقليمية.
سيناريو الانقسام الداخلي والتشكيك في الاستراتيجية:
تؤثر التصدعات الناجمة عن سقوط النظام السوري في الثقة بين الجماعات المسلحة وطهران، مما قد يؤدي إلى انقسام داخلي داخل المحور. وفي هذه الحالة، قد ينشأ تيار داخل العراق يدعو إلى استقلالية أكبر عن النفوذ الإيراني، ما قد يزيد من مخاطر تراجع العلاقات الطويلة الأمد بين بغداد وطهران.
5. رؤية ختامية
إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها سوريا لم تكن مجرد تبدل نظامي في دولة واحدة، بل كانت بمثابة ضربة استراتيجية ألقت بظلالها على شبكة نفوذ طهران المتعددة الأوجه في المنطقة. وفي هذا السياق، يُعد العراق محوراً محورياً تتأثر به قدرة إيران على تنفيذ استراتيجيتها الإقليمية المتكاملة. وبينما تحاول القيادة الإيرانية من خلال خطاباتها وإجراءاتها كبح ردود الفعل الداخلية واحتواء التشاؤم بين جماعاتها، يبقى السؤال حول مدى قدرتها على الحفاظ على توازن نفوذها في العراق وسط مضاعفات جيوسياسية واقتصادية متشابكة.
إن إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة تتطلب من صناع القرار تقييم الحاضر بموضوعية واستشراف السيناريوهات المستقبلية، سواء من خلال سبل إعادة بناء الثقة مع حلفائها أو بتطوير استراتيجيات بديلة للتأثير على المشهد السياسي والأمني. وفي الوقت الذي تظهر فيه التحديات بوضوح، تظل القدرة على التكيف والتحديث من أبرز المؤشرات التي ستحدد مستقبل العلاقات الإيرانية-العراقية واستمرارية “محور المقاومة” في ظل واقع إقليمي متغير.