توازنات جديدة عند بوابة البحر الأحمر: قراءة استراتيجية في تمدّد شبكات الحوثيين نحو القرن الأفريقي

يتحوّل خليج عدن ومضيق باب المندب إلى ساحة تنافس حادّ تتقاطع فيها مصالح جماعات مسلّحة عابرة للحدود مع حسابات دولية وإقليمية معقّدة. في هذا المشهد، لم يعد النشاط البحري في البحر الأحمر مجرّد حوادث متفرقة للقرصنة أو التهريب، بل صار جزءًا من منظومة ضغط تتداخل فيها الأهداف العسكرية والاقتصادية والإعلامية. تتقدّم في هذا الإطار شبكة علاقات متنامية تربط جماعات موجودة في اليمن بالصومال ومحيطهما، وتستفيد من هشاشة دول الساحل المقابل، ومن اتساع نطاق اقتصاد الظل عبر الموانئ والخلجان غير الخاضعة للرقابة المحكمة. هذه الدراسة تقدّم قراءة استراتيجية لهذه الظاهرة، مع تفكيك دوافعها، ومساراتها اللوجستية، وأثرها على أمن الملاحة والتجارة العالمية، ثم تستشرف مساراتها المحتملة خلال السنوات المقبلة.

منطق القوة: لماذا يتّسع نطاق الشبكات؟

نقطة الانطلاق هي التحوّل في ميزان الكلفة والجدوى لدى الجماعات المسلّحة التي تعمل في بيئة بحرية. فكلّما تعقّدت عمليات الرصد والاعتراض في محيط باب المندب، ازداد الميل إلى توزيع المخاطر عبر الشراكة مع أطراف محلية على الضفة المقابلة. الارتباط بين اليمن والقرن الأفريقي ليس طارئًا؛ إنه امتداد تاريخي لحركة البشر والسلع والديناميات الاجتماعية بين الشاطئين. الجديد هو تَحوّل هذا الإرث إلى رصيد عملياتي يسهل توظيفه: مسارات معروفة للصيد والتجارة التقليدية تُستغلّ لنقل السلاح والوقود والبضائع المهرّبة، وخبرات محلية في البحر تُدمج بتقنيات أحدث مثل الطائرات المسيّرة وأنظمة التوجيه.

الفائدة التي تجنيها الجماعات في اليمن من بناء روابط مع أطراف صومالية متعددة الألوان هي مضاعفة أدوات الردع والضغط. فالقدرة على تعطيل ممرّ بحري حيوي – ولو على نحو متقطّع – تمنح ورقة سياسية وإعلامية تفوق في أثرها حجم الموارد المستخدمة. وفي المقابل، ترى الجماعات الصومالية في هذه الشراكات فرصة لزيادة العوائد المالية والتسليحية ورفع مستوى التأثير في الداخل الصومالي وعلى الامتداد الساحلي.

الجغرافيا تعمل لصالح الشبكات

يمتد الساحل الصومالي بواجهة طويلة متعرجة، تتخلّلها مناطق يسهل فيها الهبوط والإقلاع من دون رصد فعّال. تتقن القوارب التقليدية الإبحار بين جزر ومرافئ صغيرة لا وجود فيها لسلطات قادرة على التفتيش أو التتبع، بينما تُستغل السفن الأكبر لتجاوز نقاط المراقبة المعروفة عبر مسارات ملتوية قبل تفريغ الشحنات في سفن أصغر. وعلى الجانب اليمني، تتوزّع مرافئ العبور على شريط واسع من الساحل، ما يخلق خريطة بديلة للنقل البحري خارج القنوات الرسمية. وفي الخلفية يعمل “اقتصاد الخدمات” غير الرسمي: سماسرة، ملاحون، مزوّرو وثائق، وقنوات مالية مرنة تتيح تسوية المدفوعات من دون المرور بالنظام المصرفي التقليدي.

هذا التكوين الجغرافي – المؤسسي يُنتج ميزة مزدوجة: كلفة تشغيلية منخفضة، وإمكانية إنكار المسؤولية عند حدوث عمليات اعتراض أو هجمات بحرية. وبفعل تشارك المصالح، تتزايد قدرة هذه الشبكات على سدّ ثغرات الوعي البحري لدى الخصوم، سواء عبر مراقبين محليين على الساحل، أو عبر دمج معلومات تُجمع بوسائل تقنية أكثر تقدّمًا.

دورة السلاح: من التهريب إلى ترقية القدرات

لا ينحصر التعاون في نقل قطع صغيرة من السلاح الخفيف. فالمسار يذهب أبعد نحو ترقية القدرات: تهريب صواريخ موجّهة قصيرة المدى، مكوّنات إلكترونية، معدّات اتصالات، وذخائر مطوّرة داخليًا. ثمّة بعد تدريبي وتقني يواكب هذه العمليات، يشمل إرشادًا على استخدام طائرات مسيّرة انتحارية أو استطلاعية، وأساليب دمجها ضمن تكتيكات بحرية وبريّة. بذلك تتحوّل التجارة غير المشروعة إلى منظومة تسليح مستدامة تتيح تعويض الخسائر وتبديل الأساليب بسرعة.

التسليح هنا ليس غاية في ذاته. إنّه مدخل لإعادة تشكيل المعركة على خطوط الملاحة: توسيع نطاق التهديد من البحر الأحمر إلى خليج عدن وربما أبعد نحو المحيط الهندي، وفرض حالة عدم يقين لدى شركات الشحن وشركات التأمين، وإجبار قوى دولية على نشر موارد بحرية وجوية مكلفة. وتأثير “التكلفة غير المتناظرة” واضح: عملية محدودة قد تغيّر مسارات نقل بمليارات الدولارات.

الحسابات الإقليمية: عمق استراتيجي عبر الضفة المقابلة

تتعامل أطراف إقليمية مع هذا التمدّد بوصفه فرصة لتعميق نفوذها من دون احتكاك مباشر واسع، أو بوصفه تهديدًا يستلزم بناء أطر ردع مشتركة. مصلحة بعض القوى تتمثل في خلق نقاط ضغط بعيدة عن حدودها، مستخدمةً الضفة الأفريقية بوصفها عمقًا لوجستيًا يسند نفوذها على الضفة العربية. وفي المقابل، ترى دول مجاورة للبحر الأحمر والقرن الأفريقي أن استمرار هذه الدورة يضع أمن موانئها وسلاسل توريدها تحت تهديد دائم، ويستنزف مواردها في أعمال الدورية البحرية وحماية المنصات الساحلية.

اللافت أنّ شبكة المصالح لا تسير على خط انقسام مذهبي أو أيديولوجي صافٍ. البراغماتية غلبت الخطاب؛ فالهدف المشترك هو زيادة القدرة على المناورة، والتكيّف مع الضغط الدولي، وتحقيق مكاسب مالية وإعلامية. لذلك، تظهر تفاهمات تكتيكية بين جماعات تختلف في مرجعياتها لكنها تتقاطع في خصومها وفي أدوات العمل.

أثر مباشر على الاقتصاد العالمي

باب المندب ليس مجرّد معبر إقليمي؛ إنّه حلقة في سلسلة تربط آسيا بأوروبا وأميركا عبر قناة السويس. أي تعطيل – حتى إن كان موضعيًا – يرفع كلفة الشحن، ويُطيل زمن الرحلات، ويدفع السفن إلى الدوران حول أفريقيا. النتيجة محسوسة في أسعار التأمين، وفي ربحية شركات النقل، وفي جداول تسليم السلع. بهذا المعنى، تتحوّل منطقة جغرافية محدودة إلى رافعة تؤثّر في مؤشرات عالمية، ما يجعل الاستجابة الدولية مركّبة بين الأمني والاقتصادي والدبلوماسي.

حدود الردع الدولي

مع أنّ التحالفات البحرية تستطيع اعتراض شحنات أو إحباط عمليات معينة، فإن تفكيك شبكة ممتدة على شاطئين هشّين أصعب بكثير من منع هجوم أو سفينة واحدة. شبكات التهريب بطبيعتها مرنة: تتبدّل المسارات، تُستبدل الوسائط، ويجري تعويض الخسائر بسرعة عبر قنوات بديلة. كما أنّ أي تصعيد بحري واسع يهدّد برفع الكلفة على جميع الأطراف، بما فيها الدول المعتمدة على الممرّ للملاحة والتجارة. لذلك، تميل الاستجابة إلى المزج بين الاحتواء البحري، والعمل الاستخباري، والضغط المالي، ودعم قدرات الدول الساحلية على إنفاذ القانون.

ارتداد داخلي في اليمن والصومال

لا تقف آثار هذه الشبكات عند البحر. في الداخل، أحزاب السلاح والاقتصاد غير الرسمي تَستمدّ قوتها من استمرار الفجوات بين الدولة والمجتمع. كلّما زاد الاعتماد على التهريب والجباية غير القانونية، ازدادت قدرة هذه الأطراف على التأثير في القرار المحلي، وتراجعت شرعية المؤسسات الرسمية. وفي اليمن تحديدًا، أي تزايد لنشاط الجماعات المتشددة أو أي تصعيد أمني في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًا ينعكس على مسار التسوية السياسية الهش، ويضعف فرص استقرار دائم. وفي الصومال، يقوّي تدفّق المال والسلاح نفوذ الجماعات على حساب مسار بناء الدولة.

نظرة مستقبلية: مسارات محتملة خلال 3–5 سنوات

المشهد الأقرب هو استمرار “الضغط النبضي”: موجات متقطّعة من عمليات بحرية وهجمات محدودة الأثر لكنها عالية الرمزية، تترافق مع تدفقات تهريب أكثر ذكاءً وأقل ظهورًا. سيبقى الإنكار ممكنًا عبر وكلاء محليين أو مسارات ملتوية، ما يجعل تحميل المسؤولية القانونية والسياسية عملية بطيئة ومعقدة. في الوقت نفسه، ستسعى شركات الشحن إلى حلول تجارية: تأمين أعلى، سفن مرافقة في المقاطع الأخطر، وتوزيع المخاطر عبر موانئ بديلة.

إذا تعرّضت شبكات التهريب لضربات موجعة ومتزامنة على الضفتين – وهو سيناريو يتطلّب تنسيقًا دوليًا نادرًا وتعاونًا محليًا فعّالًا – فقد نشهد انتقالًا إلى أساليب أقل كلفة وأكثر تخفيًا، مثل توظيف مكوّنات ثنائية الاستخدام، والاعتماد على الطائرات المسيّرة الصغيرة التي تُطلق من البرّ، بدلًا من العمليات البحرية الصاخبة. سيعني ذلك انخفاض الضجيج البحري الظاهر، لكن بقاء الخطر قائمًا على منشآت ساحلية وخطوط إمداد برية.

على الضفة السياسية، أي تهدئة ملموسة في النزاع اليمني ستؤثر مباشرة في كثافة النشاط البحري. إن فتحت نافذة تسوية داخلية، قد تُستخدم الشبكات التي تشكّلت في البحر كورقة تفاوض: تخفيف الهجمات مقابل ترتيبات اقتصادية وإنسانية. أما إذا تعثرت مسارات التهدئة، فسيستمر البحر حقلًا لتعويض الخسائر وإرسال الرسائل.

في الصومال، نجاح الحكومة في تحسين السيطرة على الموانئ والمناطق الساحلية، وبناء شراكات محلية مع المجتمعات البحرية، قد يحدّ من قدرة الشبكات على المناورة. لكن هذا النجاح مرهون بموارد وتمويل واستقرار سياسي لا تتوافر كلها بصورة ثابتة. لذا يبقى السيناريو المرجّح هو تقدّم بطيء مصحوب بانتكاسات، ما يتيح للشبكات الاحتفاظ بهوامش عمل كافية.

إقليميًا، ستزداد أهمية مبادرات أمن البحر الأحمر التي تجمع دول الضفتين في غرف عمليات مشتركة وتبادل بيانات فوري. ما لم تُدعم هذه الأطر بقدرات فعلية في الإنقاذ والاعتراض والتحقيق المالي، ستبقى أقرب إلى منصّات تشاور منها إلى أدوات ردع مؤثرة. النجاح يتطلّب الانتقال من الدوريات العامة إلى استهداف “مفاصل” الشبكات: الوسطاء الماليون، وسماسرة الشحن، والنقاط التي تُخزَّن فيها الشحنات قبل توزيعها.

خاتمة

نحن أمام معادلة جديدة في بوابة البحر الأحمر: شبكات مرنة توزّع المخاطر بين ضفّتين هشّتين، وتزاوج بين تقنيات بسيطة وأخرى متقدمة، وتعرف كيف تُحوّل حادثًا محليًا إلى تأثير عالمي على سلاسل التوريد. لا تبدو هذه الديناميات في طريقها إلى الزوال السريع، لكنها قابلة للاحتواء الذكي إذا عولجت بوصفها منظومة متكاملة. الطريق يبدأ من فهم الجغرافيا السياسية للمشهد البحري، مرورًا بكسر حلقة التمويل والتهريب، وصولًا إلى مسار سياسي يُقلّل دوافع التصعيد ويعيد البحر إلى وظائفه الطبيعية. ما سيحسم اتجاه المنحنى خلال السنوات القادمة هو القدرة على بناء شبكة مضادّة: معلومات دقيقة، ومزيج متوازن من الردع والحوافز. بهذه المقاربة فقط يمكن تحويل ساحة الضغط العابر للحدود إلى مساحة انحسار منسّق للخطر، من دون دفع المنطقة إلى سباق استنزاف لا نهاية له.