تقرير: تداعيات الإطاحة بنظام بشار الأسد على المنطقة والعالم

في الساعات الأولى من يوم الأحد، 8 ديسمبر 2024، شهدت سوريا نقطة تحول حاسمة بإعلان هيئة تحرير الشام سيطرتها على العاصمة دمشق وهروب الرئيس بشار الأسد. هذا الحدث يمثل نهاية حقبة طويلة من الحرب الأهلية المدمرة، ويفتح أبواب التحليل لتأثيرات هذا السقوط على سوريا، المنطقة، والدول العظمى. التقرير التالي يسلط الضوء على تداعيات هذا الحدث التاريخي.


سقوط النظام: خلفيات وأحداث

مع السيطرة على دمشق، انهار نظام الأسد الذي استمر لأكثر من نصف قرن، مخلفًا وراءه واقعًا سياسيًا جديدًا. كانت هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (المعروف بأبي محمد الجولاني)، قد شنت هجومًا خاطفًا أدى إلى السيطرة على العاصمة. هذا التحول السريع فاجأ الاستخبارات الأمريكية، التي كانت تعتقد بقدرة الأسد على الصمود لفترة أطول، حتى لو لجأ لاستخدام أسلحة كيميائية.


التأثيرات الإقليمية

إسرائيل

تُعد إسرائيل واحدة من أكثر الدول تأثرًا بتداعيات انهيار النظام السوري، حيث اعتبرت ذلك فرصة لإعادة ترتيب أوضاعها الأمنية في المنطقة. الاضطرابات الناجمة عن الإطاحة بالنظام السوري أثارت مخاوف من فوضى قد تستخدمها الجماعات المسلحة لتعزيز نفوذها بالقرب من الحدود الإسرائيلية. في ظل هذا الوضع، سعت إسرائيل إلى تأمين مصالحها الاستراتيجية من خلال تكثيف أنشطتها العسكرية والدبلوماسية لضمان الحفاظ على تفوقها الإقليمي.

انهيار النظام السوري منح إسرائيل فرصة لتوجيه ضربات عسكرية مكثفة استهدفت مواقع استراتيجية في سوريا، تضمنت أنظمة صواريخ متقدمة ومستودعات أسلحة ومنشآت تصنيع الذخائر. بالتزامن مع ذلك، أعلنت القوات الإسرائيلية الاستيلاء على نقاط إضافية في المنطقة العازلة، مع إنشاء منطقة أمنية خالية من الأسلحة الثقيلة والبنى التحتية التي قد تهدد أمنها. كما أعلنت القيادة الإسرائيلية انتهاء العمل باتفاقية فصل القوات لعام 1974، مما أتاح السيطرة على منطقة جبل الشيخ الحدودية والمناطق العازلة المحيطة.

تركيا

تأمل تركيا في استغلال الفراغ السياسي الناجم عن انهيار النظام السوري لتعزيز نفوذها الإقليمي وتأمين حدودها الجنوبية. من جهة، تسعى أنقرة لإعادة توطين اللاجئين السوريين في المناطق الآمنة التي أنشأتها داخل الأراضي السورية، وهي خطوة تعزز شعبيتها محليًا وتخفف من العبء الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكله اللاجئون على الداخل التركي. من جهة أخرى، يمثل تقويض النفوذ الكردي في شمال سوريا أولوية قصوى، حيث تعمل تركيا على إضعاف وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني.

في هذا السياق، تمكنت الفصائل الموالية لتركيا من السيطرة على مناطق استراتيجية مثل تل رفعت ومنبج، ما يعزز موقف أنقرة العسكري. مع ذلك، تواجه تركيا تحديات في التعامل مع قوى إقليمية كإيران وروسيا، خاصة أن سقوط النظام السوري يعيد خلط الأوراق الجيوسياسية في المنطقة. العلاقات مع موسكو على وجه الخصوص قد تتأثر، إذ كانت روسيا داعمًا رئيسيًا للنظام السوري. في الوقت نفسه، تحاول تركيا تعزيز دورها كوسيط في أي عملية انتقالية مستقبلية، حيث دعت إلى انتقال سلس للسلطة في دمشق وإلى إعادة بناء سوريا بما يضمن استقرارها على المدى الطويل.

إيران

إيران تُعد الخاسر الأكبر من انهيار النظام السوري، حيث فقدت حلقة رئيسة في “محور المقاومة” الذي تعتمد عليه في مواجهة إسرائيل. كانت سوريا تلعب دورًا استراتيجيًا في إمداد حزب الله اللبناني، حليف إيران الرئيس، بالأسلحة، كما شكلت ركيزة لنفوذ طهران الإقليمي وتعزيز ردعها العسكري على حدود إسرائيل.

مع انهيار النظام السوري، تقلصت قدرة إيران على دعم حزب الله ماديًا ولوجستيًا، خاصة بعد الضربات الإسرائيلية التي استهدفت قيادات حزب الله وحماس في الأشهر الأخيرة. يُضاف إلى ذلك أن السفارة الإيرانية في دمشق تعرضت للنهب، مما يعكس حجم التراجع في نفوذ طهران داخل الأراضي السورية.

في ظل هذه الخسائر، تواجه إيران تحديات كبرى لإعادة تقييم سياساتها في المنطقة، حيث دعت الدبلوماسية الإيرانية إلى مفاوضات بين الأطراف السورية، في تحول واضح عن موقفها التقليدي الداعم لنظام الأسد. مستقبل العلاقات الإيرانية مع سوريا يبدو غامضًا، إذ تحاول طهران الحفاظ على نفوذها في ظل المتغيرات الإقليمية السريعة.

لبنان

التطورات الأخيرة في سوريا تُلقي بظلالها الثقيلة على لبنان، حيث يعتمد حزب الله بشكل كبير على الدعم اللوجستي والعسكري الذي كان يوفره النظام السوري. انسحاب مقاتلي حزب الله من مناطق استراتيجية مثل القصير، وتراجع سيطرته على المناطق الحدودية، يعكس ضعفًا متزايدًا في قدرته على العمل بحرية داخل سوريا.

في الداخل اللبناني، يشكل هذا التطور تحديًا جديدًا لحزب الله، حيث يعتمد دوره الإقليمي على قوة ارتباطه بإيران وسوريا. خسارته للممر السوري الحيوي قد تؤدي إلى تقليص إمداداته العسكرية وتراجع نفوذه السياسي داخل لبنان.

من ناحية أخرى، يعزز الجيش اللبناني إجراءاته الأمنية على الحدود مع سوريا للتعامل مع أي تدفق محتمل للاجئين أو تهديدات أمنية قد تنشأ بسبب الفوضى المتزايدة في المنطقة.

على المدى الطويل، قد يدفع هذا الواقع حزب الله إلى إعادة تقييم استراتيجيته، بما في ذلك التركيز بشكل أكبر على دوره السياسي داخل لبنان، مع الاحتفاظ بقدرات عسكرية محدودة تضمن له نفوذًا في القضايا المصيرية.


التأثيرات الدولية

الولايات المتحدة

تعتبر واشنطن انهيار النظام السوري فرصة لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، حيث يمكنها إعادة صياغة استراتيجيتها الإقليمية بما يضعف النفوذ الإيراني والروسي. ومع ذلك، تواجه الإدارة الأمريكية تحديات كبرى في التعامل مع تداعيات هذا السقوط. أبرز هذه التحديات هو ضمان عدم تحول سوريا إلى ملاذ للجماعات المتطرفة مثل تنظيم داعش، الذي يستغل الفوضى لتحقيق مكاسب ميدانية.

الوجود العسكري الأمريكي المتمثل بنحو 900 جندي في سوريا يُعد حيويًا للمصالح الأمريكية في منطقة الهلال الخصيب. هذا التواجد لا يقتصر على مكافحة الإرهاب فقط، بل يهدف أيضًا إلى دعم الحلفاء المحليين مثل قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وتذكير الفصائل المعارضة بأن واشنطن تملك أدوات تأثير حاسمة عند الضرورة. ومع ذلك، يُدرك المراقبون أن نفوذ الولايات المتحدة في سوريا محدود نسبيًا، حيث تقتصر علاقاتها المباشرة على بعض القوى المحلية مثل الأكراد، بينما تسير الفصائل الأخرى غالبًا في مسارات مستقلة أو تتحالف مع قوى إقليمية مثل تركيا.

إلى جانب ذلك، تشكل قاعدة طرطوس البحرية الروسية عاملًا استراتيجيًا حساسًا في الصراع على النفوذ، حيث تسعى واشنطن للتأكد من تقليص قدرة موسكو على استخدام هذه القاعدة لتعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط. كما تعمل واشنطن على تعزيز تحالفاتها الإقليمية مع تركيا ودول الخليج لتحقيق الاستقرار في سوريا، مع التركيز على دعم القوى المحلية التي يمكن أن تساهم في إعادة بناء الدولة السورية وتجنب تكرار سيناريو الفوضى كما حدث في ليبيا بعد سقوط القذافي.

روسيا

فقدت موسكو أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط، مما يضعف وجودها الاستراتيجي في المنطقة ويعرض قاعدتها البحرية في طرطوس للخطر. مع سيطرة المعارضة على دمشق، يطرح مستقبل الوجود العسكري الروسي العديد من التساؤلات حول استمرارية نحو 100 موقع عسكري روسي في سوريا، بما في ذلك قاعدتا طرطوس وحميميم.

رغم تأكيد موسكو أن هذه القواعد في حالة تأهب قصوى، إلا أن التحولات السياسية قد تفرض واقعًا جديدًا. تعكس تصريحات القيادة السورية الجديدة توجهًا لإعادة النظر في الاتفاقيات السابقة مع روسيا، مما يشير إلى احتمالية تقليص الدور الروسي بشكل تدريجي. ومع ذلك، قد تبدي موسكو براغماتية وتسعى للحفاظ على وجودها العسكري كجزء من استراتيجيتها للتحكم في طرق الملاحة الدولية والوصول إلى إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.

في المقابل، تواجه روسيا تحديات داخلية وخارجية، حيث ترى القوى الغربية وإسرائيل في تقليص النفوذ الروسي في سوريا فرصة لإعادة التوازن الإقليمي. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، قد تضطر موسكو إلى إعادة توجيه مواردها، مما يزيد من الضغوط على وجودها العسكري في سوريا.

أوروبا

تشعر أوروبا بالقلق من موجة جديدة من اللاجئين ومن تصاعد خطر الجماعات الإرهابية، وهو ما يضعها أمام ضرورة دعم الاستقرار في سوريا. رحّبت دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، بسقوط نظام الأسد، معتبرةً ذلك فرصة لإعادة ترتيب الوضع في سوريا نحو انتقال سياسي سلمي. ومع ذلك، حذرت من مخاطر وصول متشددين إلى السلطة، مما يعقد الجهود لتحقيق الاستقرار.

في ألمانيا، عبّرت الحكومة عن “ارتياحها” لسقوط النظام، لكنها شددت على ضرورة تحمل الأطراف السورية مسؤولياتها تجاه الشعب السوري. أما فرنسا، فقد دعت إلى “وحدة وطنية” كشرط أساسي لإنهاء الصراع. هذه المواقف تعكس رغبة أوروبية واضحة في توجيه المرحلة الانتقالية بما يخدم استقرار المنطقة، مع تقليل تدفق اللاجئين ومخاطر الإرهاب.


الفراغ السياسي: التحديات والفرص

انهيار النظام السوري خلق فراغًا سياسيًا وأمنيًا معقدًا يمكن أن يشكل بيئة خصبة لظهور الجماعات المتطرفة واستغلالها للوضع غير المستقر. في المقابل، يمثل هذا الفراغ فرصة فريدة لإعادة الإعمار، حيث تُظهر الدول الكبرى والشركات العالمية اهتمامًا متزايدًا بمشاريع البنية التحتية وإعادة تأهيل الاقتصاد السوري. تتنافس القوى الدولية ليس فقط على تحقيق مكاسب اقتصادية، بل أيضًا على إعادة تشكيل النفوذ الجيوسياسي في البلاد. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذه الفرص بيئة مستقرة وآمنة، مما يضع عبئًا كبيرًا على المجتمع الدولي لدعم عملية انتقال سياسي تضمن التوازن وتحد من الانزلاق نحو الفوضى.


نظرة شاملة وختامية

الإطاحة بنظام بشار الأسد ليست مجرد تحول داخلي في سوريا، بل تشكل نقطة انعطاف في التوازنات الإقليمية والدولية. يتعين على القوى الإقليمية والدولية التعامل مع هذا التحول بحذر لضمان استقرار سوريا ومنع الانزلاق نحو فوضى قد تفتح المجال أمام الجماعات المتطرفة. المرحلة المقبلة تتطلب جهودًا مكثفة لإعادة بناء المؤسسات الوطنية، مع توفير بيئة آمنة تتيح للسوريين العودة إلى ديارهم. كما أن التعاون الدولي سيكون ضروريًا ليس فقط لتحقيق الاستقرار، ولكن أيضًا لإعادة تشكيل النفوذ الجيوسياسي في المنطقة بما يتماشى مع مصالح جميع الأطراف.