- يونيو 17, 2025
- الباحث: محمد غازي
- التصنيفات: الإعلام والتكنولوجيا, الخليج وسياسة الطاقة, السياسة العربية, الشؤون العسكرية والأمنية, الطاقة والاقتصاد, انتشار الأسلحة

خلفية التوترات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل
تعود جذور التوتر المتفاقم بين إيران وإسرائيل إلى سنوات من الصراع الخفي والمواجهة بالوكالة. لطالما اعتبرت إسرائيل البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًّا لأمنها، وردّت على ذلك بحملة سرية وعلنية من الاغتيالات الإلكترونية والعلمية وشن ضربات جوية على أهداف إيرانية في سوريا والعراق. في المقابل، اعتمدت إيران على شبكة من الحلفاء والوكلاء في لبنان وسوريا وغزة واليمن لزيادة كلفة أي هجوم إسرائيلي وإبقاء الضغط على إسرائيل إقليميًّا. وعلى مدار العام 2024 والأشهر الأولى من 2025 تراكمت المؤشرات على احتمال انفجار مواجهة مباشرة: فشلت جولات التفاوض لإحياء الاتفاق النووي وسط تمسك إيران بمواصلة التخصيب المتقدم، بينما صعّدت إسرائيل من لهجتها محذرةً من أنها لن تسمح لطهران بامتلاك سلاح نووي. وجاء قرار إسرائيل بتنفيذ ضربات موسعة داخل الأراضي الإيرانية في يونيو/حزيران 2025 ليترجم هذه التحذيرات عمليًّا، مخرجًا الصراع من حرب الظلّ إلى مواجهة عسكرية مباشرة هي الأولى من نوعها بهذا الحجم بين الجانبين.
مصالح وأهداف التصعيد لدى إيران وإسرائيل
بالنسبة لإسرائيل: تسعى تل أبيب من خلال هذا التصعيد إلى تحقيق جملة أهداف إستراتيجية. الهدف الأول والأبرز هو منع إيران من امتلاك قدرات نووية عسكرية أو الاقتراب من عتبة النووي؛ إذ أكّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الضربة الأخيرة “لن تكون الأخيرة ما دام التهديد النووي قائمًا”، موضحًا أنها جاءت كمبادرة إسرائيلية مستقلة حتى لو استدعى الأمر مواجهة قوى كبرى. هذا التصريح العلني يعكس تحولًا في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي من سياسة الردع السلبي إلى المبادرة الاستباقية الهجومية، في محاولة لفرض أمر واقع جديد. كما بعثت إسرائيل عبر عمليتها رسالة مزدوجة: أولى لطهران بأن مشروعها النووي لن يُترك ليبلغ مراحله النهائية دون كلفة باهظة، وثانية لحلفائها الغربيين – وعلى رأسهم واشنطن – بأن تل أبيب مستعدة للتحرك منفردة إذا شعرت أن الدبلوماسية عاجزة عن وقف الخطر الإيراني. وإلى جانب استهداف المنشآت النووية مثل موقع نطنز الشهير لتخصيب اليورانيوم، هاجمت إسرائيل نحو 100 هدف حيوي إيراني، ما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية للتخصيب المتطور وفق تقديرات الخبراء. ورغم هذا “الإنجاز” العسكري، يدرك صناع القرار في إسرائيل أن هذه المغامرة تنطوي على أثمان ثقيلة، خصوصًا إذا ردّت إيران بنقل المعركة إلى مستوى إقليمي أوسع أو اتجهت نحو تصعيد نووي علني، بما قد يفتح الباب أمام حرب شاملة لا تستطيع إسرائيل التحكم بمآلاتها منفردة.
بالنسبة لإيران: تنظر طهران إلى التصعيد الأخير بوصفه فرصة لإعادة ضبط ميزان الردع مع إسرائيل واستعادة هيبتها الإقليمية، رغم ما يحمله الرد العسكري من مخاطر. فبعد الضربة الإسرائيلية الواسعة، هيمن تيار الصقور الذي يقوده الحرس الثوري على دوائر القرار الإيراني، ودفع باتجاه ردّ عسكري مباشر وواضح ضد إسرائيل لاستعادة الهيبة وكبح جماح تل أبيب. جاء هذا التوجه المتشدد على حساب تيار آخر داخل الحكومة دعا إلى التريّث وإعادة بناء القدرات العسكرية والعلمية أولًا قبل الانزلاق إلى حرب شاملة قد تكون نتائجها كارثية. وفي إشارة إلى محاولة الموازنة بين رغبة الانتقام وضبط وتيرة التصعيد، صرّح المرشد الأعلى علي خامنئي بأن “الرد سيكون مدروسًا ومؤلمًا”، مما يعكس حرص القيادة الإيرانية على توجيه ضربة موجعة لإسرائيل دون الوصول إلى نقطة اللاعودة. وبالفعل، أطلقت إيران عشرات الصواريخ الباليستية باتجاه عمق إسرائيل في رد غير مسبوق استهدف تل أبيب ومدنًا أخرى، الأمر الذي شكّل تحولًا نوعيًّا نقل المواجهة من مجرد عمليات محدودة إلى ما يشبه بداية حرب فعلية. وتسعى إيران من خلال هذا الرد إلى تحقيق عدة مصالح: ترميم قوة الردع لمنع إسرائيل من تكرار الهجمات مستقبلاً، وإرضاء الرأي العام الداخلي الذي شهد تظاهرات غاضبة منددة بفشل الأجهزة الأمنية في منع الضربة الأولى، إضافة إلى توجيه رسالة للمجتمع الدولي مفادها أن أي اعتداء على سيادة إيران سيقابل برد قاسٍ قد يهدد استقرار المنطقة برمتها. وفي الوقت نفسه، تُبقي طهران خيارات أخرى مفتوحة، من ضمنها تفعيل جبهات حلفائها الإقليميين للرد بصورة غير مباشرة على إسرائيل، أو حتى العودة إلى طاولة المفاوضات النووية ولكن من موقع أقوى هذه المرة – أي عبر إظهار استعدادها للتصعيد بغية انتزاع تنازلات اقتصادية وسياسية لاحقًا.
الأبعاد الإقليمية للتصعيد
انعكاسات التصعيد على لبنان وسوريا والعراق
أدركت الأطراف الإقليمية المتحالفة مع إيران خطورة الانجرار الكامل إلى هذه المواجهة الإسرائيلية الإيرانية المباشرة، خاصة في ظل اختلال موازين القوى العسكرية لصالح إسرائيل. في لبنان، يواجه حزب الله ضغوطًا دولية غير مسبوقة – من فرنسا والأمم المتحدة تحديدًا – للحيلولة دون انخراطه في حرب مفتوحة مع إسرائيل. كما أن الداخل اللبناني يُعاني أزمات اقتصادية وسياسية خانقة تجعل قرار الدخول في مغامرة عسكرية جديدة محفوفًا بتبعات كارثية على استقرار البلاد. لذلك اكتفى الحزب حتى الآن برفع الجهوزية وإطلاق تصريحات التصامن، دون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تفجّر جبهة الجنوب اللبناني.
وفي العراق، أعلنت الفصائل المسلحة الموالية لإيران – وعلى رأسها قوات الحشد الشعبي – حالة التأهب القصوى تحسبًا لتطورات الصراع. إلا أن هذه الفصائل امتنعت عن تنفيذ عمليات ذات أثر إستراتيجي مباشر ضد إسرائيل أو المصالح الأميركية منذ وقوع الضربة، ويعزى ذلك إلى التنسيق الأميركي مع حكومة بغداد الذي ساهم بشكل حاسم في كبح أي تحرك عسكري نوعي من الأراضي العراقية. ووفق تقرير خاص لوكالة رويترز، بعثت واشنطن رسائل تحذير مباشرة إلى حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تنص على عواقب السماح بانطلاق هجمات انتقامية من الأراضي العراقية تجاه إسرائيل أو القوات الأميركية. هذا التحذير الأميركي الجاد، إلى جانب حرص بغداد على تجنيب أراضيها نيران حرب جديدة، قلّصا من هامش مناورة الميليشيات العراقية.
أما في سوريا، فقد بادرت إسرائيل إلى توجيه ضربات وقائية مكثفة ضد مواقع المليشيات الموالية لإيران في دير الزور وحمص، بهدف شل أي قدرة لدى تلك القوات على فتح جبهة ثانية من الأراضي السورية. وجاءت هذه الضربات في ظل تغييرات جوهرية يشهدها المسرح السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، مما أوجد بيئة جيوسياسية معادية حدّت من هامش الحركة الإيراني هناك. وتشير المعطيات إلى أن محور طهران الإقليمي يرزح حاليًا تحت حصار عسكري واستخباراتي مكثف، يُعطّل – حتى اللحظة – قدرة حلفاء إيران على تنفيذ عمليات انتقام إستراتيجية ذات تأثير واسع. ورغم ذلك، برز استثناءان لافتان في هذا المشهد: أولهما في اليمن حيث أعلنت جماعة أنصار الله (الحوثيون) انخراطها الفعلي في الحرب إلى جانب إيران ردًا على الضربات الإسرائيلية، وهو ما تُرجم بمحاولات إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة باتجاه أهداف إسرائيلية واعتراضها في الأجواء السعودية والأردنية. أما الاستثناء الثاني فهو حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، التي ورغم انشغالها بمواجهة عسكرية ضارية مع إسرائيل في أعقاب معركة “طوفان الأقصى”، سارعت إلى إعلان وقوفها في الخندق الإيراني ضد ما وصفته “العدوان الإسرائيلي”، حيث أكد أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام – الجناح العسكري لحماس – تضامن الحركة مع إيران وأن هذا العدوان لن يُقوِّض جبهات المقاومة. هذه المواقف وإن كانت رمزية في أغلبها، فإنها تعكس رغبة حلفاء إيران في إبداء الاستعداد لنصرتها، مع الالتزام الحذر بعدم تجاوز الخطوط التي قد تستجلب ردودًا إسرائيلية ساحقة.
انعكاسات التصعيد على دول الخليج
تنظر دول الخليج العربي بقلق بالغ إلى التصعيد الإيراني الإسرائيلي نظرًا لما يحمله من تهديد مباشر لأمنها ومصالحها الحيوية. فقد أصدرت دول مجلس التعاون الخليجي بيانات مشتركة تحض فيها جميع الأطراف على ضبط النفس وتجنيب المنطقة المزيد من التوتر الذي لا تحتمله شعوبها ولا اقتصاداتها. وينبع القلق الخليجي من عدة عوامل؛ أبرزها الخشية من أن تصبح أراضيها أو منشآتها النفطية أهدافًا في حال اتساع نطاق المواجهة، لا سيما وأن ذاكرتها ما تزال مثقلة بتجربة الهجمات المدمرة على منشآت أرامكو عام 2019. كما تخشى عواصم الخليج من اضطراب طرق الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز في حال اندلاع حرب شاملة، إذ أن أي إغلاق أو تهديد جدي للممرات البحرية سيعيد تشكيل أسواق الطاقة العالمية ويضع الاقتصاد الخليجي في مهب عاصفة خطيرة. وقد نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مسؤول خليجي رفيع قوله إن أي اضطراب في هرمز “سيُعيد ترتيب الأسواق العالمية بالكامل ويضع الخليج في مرمى العاصفة الاقتصادية والسياسية”.
إلى جانب الهاجس الأمني المباشر، يتنامى إدراك لدى دول الخليج بأنها قد تدفع الثمن الأكبر لأي مواجهة إقليمية واسعة، بينما تتحقق مآرب الآخرين. فهذه الدول وإن كانت تتقاسم مع إسرائيل الرغبة في كبح المشروع النووي الإيراني، إلا أنها لا تريد أن تكون ساحة حرب بالوكالة أو ضحية جانبية لمغامرات عسكرية أحادية. وقد بدأت بعض الأصوات في الأوساط الخليجية تطالب بإعادة تقييم مستوى الانخراط في التحالفات الإقليمية الحالية، بما في ذلك العلاقة الناشئة مع إسرائيل بعد اتفاقات التطبيع الأخيرة. فالتصعيد الإسرائيلي المنفرد من دون تنسيق كامل مع الشركاء الخليجيين أثار مخاوف حول مدى اعتماد تل أبيب سياسة تأخذ في الحسبان مصالح حلفائها العرب. وفي هذا السياق، نقل عن مسؤول خليجي قوله صراحة إن دول الخليج لا تريد أن تدفع ثمن مغامرات الآخرين، في إشارة إلى خشيتهم من أن تتحمل دولهم تبعات صراع ليست هي الطرف المباشر فيه. بناءً على ذلك، تحاول العواصم الخليجية توصيل رسائل حازمة لكل من واشنطن وتل أبيب بأنها معنية باحتواء المشروع النووي الإيراني لكنها في الوقت نفسه لن تُقبل على خطوات غير محسوبة قد تشعل حربًا إقليمية شاملة يكون الخليج أول الخاسرين فيها.
المواقف الدولية من التصعيد
الولايات المتحدة الأميركية
تقف الولايات المتحدة بقوة إلى جانب إسرائيل في هذا التصعيد، حيث كشف التنسيق العلني والخفي بين واشنطن وتل أبيب عن نفسه منذ اللحظات الأولى. فقد سارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تأييد الضربة الإسرائيلية الواسعة على إيران، مصرحًا لشبكة ABC أن إدارته “منحت الإيرانيين فرصة ولم يستغلوها وتلقّوا ضربة قاسية جدًا” مع تأكيده أن “هناك المزيد في المستقبل”. وأشار ترامب ومسؤولوه إلى أن إسرائيل استخدمت في الهجوم معدات عسكرية أميركية متطورة، مما يوحي بأن الضوء الأخضر الأميركي للعملية كان حاضرًا بقوة خلف الكواليس. بل إن مستشار الأمن القومي الأميركي – وزير الخارجية ماركو روبيو – صرّح بأن “العمل العسكري قد يمهّد لاتفاق نووي طويل الأمد”، كاشفًا رغبة واشنطن في توظيف التفوق العسكري الإسرائيلي للضغط على طهران وقلب المعادلة التفاوضية لصالح الغرب. وقد كشفت تقارير صحفية (قناة NBC) عن اتصالات سرية جرت بين مسؤولين أمنيين أميركيين وإسرائيليين قبل أسبوعين من الضربة، بالتزامن مع رفع حالة التأهب في القواعد الأميركية بالخليج تحسّبًا لأي رد فعل إيراني يستهدف المصالح الأميركية في المنطقة. وفي المحصلة، تنظر الإدارة الأميركية إلى هذه المواجهة بمنظور ازدواجي: فمن جهة هي اختبار عملي لقدرة إيران على التحمل عسكريًا ومدى جديتها في الميدان، ومن جهة أخرى هي استعراض لحزم واشنطن أمام القوى الدولية الأخرى – لا سيما روسيا والصين – للتأكيد بأن الولايات المتحدة ما تزال اللاعب الرئيسي القادر على هندسة التوازنات الأمنية في الشرق الأوسط. ومع ذلك، ورغم الدعم الأميركي الصريح لإسرائيل، تحاول واشنطن تجنب التورط المباشر في حرب جديدة في الشرق الأوسط ما أمكنها ذلك، مفضّلة الضغط عبر حلفائها واستخدام نتائج الضربة كورقة مساومة لدفع إيران نحو اتفاق نووي بشروط أكثر صرامة.
روسيا
أما روسيا فتتبنى موقفًا حذرًا يزاوج بين إدانة الضربة الإسرائيلية ودعوة جميع الأطراف لضبط النفس، وبين حماية مصالحها الإستراتيجية مع طهران. جاء رد الفعل الروسي الرسمي سريعًا على لسان وزارة الخارجية التي وصفت الهجوم الإسرائيلي بأنه “خرق للقانون الدولي وسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة”، وهو وصف ينسجم مع نهج موسكو التقليدي كمناهض للضربات الأحادية التي تقودها الولايات المتحدة أو حلفاؤها. وتسعى روسيا عبر هذا الموقف المبدئي إلى تثبيت صورتها كمدافع عن النظام الدولي ومبدأ سيادة الدول، خاصة في مواجهة ما تعتبره سياسة أميركية أحادية تميل لاستخدام القوة دون غطاء أممي. لكن خلف الستار، لا تُخفي موسكو قلقها من تبعات أي انفجار إقليمي قد يمس مصالحها مع إيران. فوفقًا لوكالة إنترفاكس الروسية، أبلغت موسكو طهران عبر قنوات خلفية أن “أي تصعيد ميداني سيؤثر سلبًا على مشاريع الطاقة الروسية المشتركة مع إيران”، خصوصًا في مجالات الغاز وخطوط التصدير الجديدة عبر بحر قزوين. هذا التحذير يوضح أن الكرملين وإن عارض علنًا الضربة الإسرائيلية، إلا أنه لا يشجّع طهران على توسيع دائرة الحرب بشكل يضر باستثمارات روسيا وشراكاتها الاقتصادية مع إيران. بعبارة أخرى، تحاول موسكو الموازنة بين الوقوف سياسيًا في صف حليفتها الإيرانية والتزام الحذر حيال مغامرات قد تضر بمصالحها المباشرة في الطاقة والنفوذ الإقليمي.
الصين
تلتزم الصين نهجًا براغماتيًا حيال التصعيد الإيراني الإسرائيلي، يرتكز على أولوية حماية مصالحها الاقتصادية ومصادر الطاقة أكثر من الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية. فعلى الرغم من العلاقة الوثيقة التي تربط بكين بطهران كشريك اقتصادي أول، اكتفت الصين برد فعل دبلوماسي فضفاض تمثل في الإعراب عن “قلق عميق” والدعوة إلى التهدئة وتغليب الحلول السلمية. وفي الوقت نفسه، عبّرت صحيفة غلوبال تايمز الصينية (المقربة من الحزب الشيوعي) عن “قلق حقيقي من أن تؤثر الضربة على استقرار طرق إمداد الطاقة” إلى الصين، في تلميح واضح إلى أن مبعث القلق الأساسي لبكين هو أمن وارداتها النفطية واستقرار التجارة العالمية. هذا الموقف يؤكد أن أولويات الصين تختلف عن أولويات إيران حتى لو بدت ظاهريًا في صفها؛ فبكين معنية قبل كل شيء بضمان تدفق النفط والغاز واستمرار طرق الملاحة دون تعطيل، ولن تغامر بالدخول في مواجهة لصالح إيران قد تهدد مصالحها الاقتصادية العالمية. ومن غير المستبعد أن تسعى الصين – خلف الأبواب المغلقة – إلى دفع طهران لضبط النفس، في ظل إدراكها أن أي حرب واسعة في الخليج ستعني كارثة لسوق الطاقة العالمي وانعكاسات خطيرة على الاقتصاد الصيني. باختصار، تقف الصين موقف المراقب القلق: تؤيد نظريًا حل الخلافات سلميًا، لكنها عمليًا ستركز جهودها على حماية تجارتها وضمان ألا يُعرقل التصعيد تدفق النفط الذي يعد عصب اقتصادها المتعطش للطاقة.
الاتحاد الأوروبي
يتسم موقف الاتحاد الأوروبي بالحذر الشديد ومحاولة مسك العصا من المنتصف، في ظل غياب سياسة أوروبية موحدة وواضحة تجاه أزمات الشرق الأوسط. أعرب الاتحاد عبر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية جوزيب بوريل عن قلقه البالغ إزاء دوامة العنف بين إسرائيل وإيران، محذرًا من أنها قد تؤدي إلى إشعال حرب إقليمية واسعة النطاق. ودعا بوريل والجهاز الدبلوماسي الأوروبي إلى التهدئة وضبط النفس من جميع الأطراف، مشددين على أن الحلول الدبلوماسية باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى لتجنب تفجير ما تبقى من مسار التفاوض حول النووي الإيراني. وعلى مستوى الدول الأوروبية الرئيسية، برز تباين نسبي في اللهجة: فرنسا التزمت خطابًا متوازنًا حيث دعا وزير خارجيتها إلى خفض التصعيد محذرًا من أن “أي استهداف مباشر للأراضي السيادية يفتح الباب أمام انفجار واسع يصعب احتواؤه”؛ في حين بدت ألمانيا أقرب للموقف الإسرائيلي، إذ أكد مستشارها فريدريش ميرتس على حق إسرائيل غير القابل للتفاوض في الدفاع عن نفسها، رغم إقراره بأن ضرب أهداف داخل إيران ينطوي على مخاطر كبيرة تهدد استقرار المنطقة بالكامل. أما بريطانيا، فجاء موقفها وسطًا: أعرب رئيس الوزراء كير ستارمر عن قلقه البالغ إزاء التقارير حول الضربات وحثّ جميع الأطراف على التراجع الفوري وخفض التوتر. وحرص مسؤولون بريطانيون على توضيح أن القوات البريطانية ليست منخرطة في الدفاع عن إسرائيل ضد أي هجمات إيرانية مضادة حاليًا، خلافًا لما أُعلن في العام الماضي عندما أبدى سلاح الجو الملكي استعداده للاشتباك مع أهداف إيرانية إذا لزم الأمر. ومع تصاعد التوتر، سارع الاتحاد الأوروبي لعقد اجتماعات وزارية طارئة لبحث الأزمة، وسط اعتراف ضمني بأن الدور الأوروبي يبقى هامشيًا في غياب أدوات ضغط حقيقية على مجريات الصراع. وفي المحصلة، يجمع الموقف الأوروبي على الدعوة إلى الحلول الدبلوماسية واستبعاد الخيار العسكري، مخافة أن ينسف التصعيد العسكري آخر الجهود المبذولة لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015. ويؤكد مسؤولو الاتحاد أن العودة إلى طاولة المفاوضات باتت ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى، تفاديًا لانزلاق المنطقة إلى حرب شاملة لا رابح فيها.
انعكاسات التصعيد على ميزان الردع والتحالفات الإقليمية
أدى التصعيد العسكري الأخير إلى إعادة خلط الأوراق فيما يتعلق بميزان الردع القائم بين إيران وإسرائيل، وكذلك في شأن شبكة التحالفات الإقليمية والدولية المحيطة بهما. فمن الواضح أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة من الصراع “تحت السقف النووي” – أي مواجهة مباشرة واسعة النطاق ولكن دون الوصول لاستخدام السلاح النووي أو استهداف مفاعلات بشكل يسبب كارثة إشعاعية – حيث لم تعد الخيارات التقليدية كفيلة بتحقيق مكاسب حاسمة لأي طرف. ففي السابق، اعتمدت إستراتيجية الردع المتبادل على إبقاء الصراع ضمن نطاق الضربات المحدودة وحروب الظل عبر أطراف ثالثة، إلا أن الضربة الإسرائيلية المباشرة داخل إيران وردّ طهران الصاروخي السريع كسرا هذا النموذج. لقد أثبتت إسرائيل أنها مستعدة للانتقال من استراتيجية الدفاع والاحتواء إلى استراتيجية الهجوم الاستباقي إذا رأت تهديدًا وجوديًا، ما يرفع سقف المواجهة ويضع خصومها أمام معادلة ردع جديدة قوامها أن تل أبيب قد تقدم على خطوت منفردة جريئة بغض النظر عن العواقب. في المقابل، أظهرت إيران أنها لا تزال تمتلك أوراق قوة رغم التفوق الجوي والتكنولوجي الإسرائيلي؛ فرغم الضربات الموجعة في العمق الإيراني، تمكنت طهران من الحفاظ على تماسك مؤسساتها الدفاعية وإطلاق وابل صاروخي على أهداف إسرائيلية حساسة، بما أجبر الإسرائيليين على فتح الملاجئ وإعلان حالة الطوارئ. هذا الرد الإيراني الحازم أعاد شيئًا من التوازن لميزان الردع، عبر إيصال رسالة مفادها أن أي مساس بأمن إيران الداخلي سيقابله خطر مباشر على العمق الإسرائيلي أيضًا.
لكن هذه التطورات تترك المنطقة في وضع فراغ إستراتيجي يتطلب إعادة تعريف للتحالفات وقواعد الاشتباك في الشرق الأوسط. فمن جهة، عززت المواجهة من التحالف العضوي بين واشنطن وتل أبيب أكثر من أي وقت مضى، حيث اصطفّت الإدارة الأميركية بشكل واضح خلف إسرائيل سياسيًا وعسكريًا. ومن جهة أخرى، وضعت دول الخليج – الحليفة تقليديًا لأميركا والتي انفتحت مؤخرًا على إسرائيل – أمام تساؤلات صعبة بشأن حدود التنسيق الأمني مع تل أبيب في ضوء مغامرتها الأخيرة دون تشاور واسع. وفي المعسكر المقابل، ورغم أن محور طهران الإقليمي لم ينجرف إلى حرب شاملة، فإن إيران ستتطلع إلى تثبيت تحالفاتها مع القوى غير الغربية (روسيا والصين) كخط دفاع دبلوماسي واقتصادي في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة، مع إدراكها في الوقت نفسه أن دعم موسكو وبكين لها له حدود ولن يصل إلى حد المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو أمريكا. ويمكن القول إن قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط بعد هذا التصعيد لن تعود كما كانت؛ فقد سقطت بعض المحرّمات الضمنية، وبات استهداف العمق الاستراتيجي للطرفين واردًا بعدما كان خطًا أحمر طوال السنوات الماضية. ومن شأن ذلك أن يرفع مستوى عدم اليقين في المنطقة: هل ستضمن هذه المعادلة الجديدة ردعًا متبادلًا أكثر استقرارًا يمنع الانزلاق إلى حرب مفتوحة؟ أم أنها على العكس ستؤدي إلى سباق نحو حافة الهاوية مع كل أزمة مقبلة؟ المؤكد أن الإجابة ستعتمد إلى حد بعيد على سلوك الأطراف المعنية في الفترة القريبة المقبلة، وعلى قدرة اللاعبين الدوليين والإقليميين على إعادة صياغة تحالفاتهم وترسيم خطوط حمر جديدة تحفظ التوازن وتردع المغامرين.
السيناريوهات المحتملة لمسار الأحداث (قريبًا وعلى المدى المتوسط)
في ظل هذا التصعيد التاريخي، تجد منطقة الشرق الأوسط نفسها عند مفترق طرق حرج، مع عدد من السيناريوهات المحتملة لمسار الأحداث في المستقبل القريب والمتوسط:
-
- تصعيد إقليمي واسع وحرب شاملة: أخطر السيناريوهات يتمثل في خروج الأوضاع عن نطاق السيطرة وانزلاق الأطراف إلى مواجهة عسكرية إقليمية مفتوحة. في هذا السيناريو قد نشهد انخراطًا أكبر لحلفاء إيران (رغم قيودهم الحالية) وفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل، بما فيها جبهة جنوب لبنان أو استهداف قواعد أميركية في المنطقة. كما أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة للتدخل عسكريًا بشكل مباشر إذا ما تعرضت مصالحها أو حلفاؤها لهجمات إيرانية واسعة. هذا التصعيد الأقصى قد يؤدي إلى ضربات متبادلة تطال مدنًا وعواصم إقليمية، مع مخاطر جسيمة على إمدادات النفط وحركة التجارة العالمية. ورغم أن أيا من الطرفين لا يملك مصلحة حقيقية في حرب شاملة، فإن سوء الحسابات أو سلسلة ردود الفعل الانتقامية غير المضبوطة قد تقود إلى هذا السيناريو الكارثي الذي ستكون كلفته البشرية والاقتصادية هائلة على جميع الأطراف.
- احتواء التصعيد والعودة إلى المفاوضات: في المقابل، هناك سيناريو معاكس يقوم على نجاح الضغوط الدولية والمساعي الدبلوماسية في لجم دوامة العنف وإقناع الأطراف بالعودة إلى طاولة التفاوض على أساس توازن قوى جديد. ضمن هذا المسار، يمكن أن يثمر التصعيد العسكري عن ترتيب تفاوضي أكثر صرامة مع إيران، كما تأمل واشنطن، حيث تستغل الولايات المتحدة وإسرائيل ما تحقق من تفوق ميداني لفرض شروط مشددة على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف محدود للعقوبات. وقد يتضمن ذلك إحياء مفاوضات فيينا النووية ولكن هذه المرة وفق إملاءات جديدة تأخذ بالحسبان الواقع الذي فرضته المواجهة الأخيرة. في هذا السيناريو، سوف تسعى طهران إلى التقاط الأنفاس وتفادي انهيار شامل، وربما تقبل بتنازلات تكتيكية (كضبط مستوى التخصيب أو توسيع نطاق المراقبة الدولية) لقاء امتيازات اقتصادية عاجلة. نجاح هذا الخيار يعتمد إلى حد كبير على قدرة الوسطاء الدوليين (أوروبا وروسيا وربما الصين) على تقديم ضمانات مرضية لجميع الأطراف، وعلى استعداد القيادة الإيرانية لضبط جناحها العسكري المتشدد والعودة إلى منطق اللعب تحت سقف الدبلوماسية بدلًا من الصدام المفتوح.
- استمرار الوضع المتوتر (جمود استراتيجي): هناك أيضًا احتمال بقاء الوضع في حالة توتر مزمن دون حسم واضح لأي طرف، فلا الحرب الشاملة تقع ولا التسوية السياسية تتحقق بسرعة. في هذا السيناريو يستمر تبادل الضربات الموضعية بين إسرائيل وإيران ضمن ما يشبه حرب استنزاف محدودة ومدروسة الخطوط الحمر، مع استمرار الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على طهران. قد نشهد جولات متقطعة من التصعيد تعقبها فترات هدوء حذر، من دون الوصول إلى اتفاق شامل أو اندلاع حرب كبرى. هذا الجمود الإستراتيجي قد يستمر أشهرا أو حتى سنوات، وهو سيناريو مرهق لجميع الأطراف لكنه قد يكون الأكثر واقعية إذا ما فضّلت القوى الدولية احتواء الأزمة بدلًا من حلّها جذريًا. بيد أن خطورة هذا الخيار تكمن في أنه مؤقت وغير مستقر؛ فاستمرار الاحتقان مع سباق التسلح وتآكل الثقة المتبادل قد يجعل المنطقة أقرب ما تكون إلى حافة الاشتعال الشامل في أي لحظة، ما لم ينجح المجتمع الدولي في بناء إطار أمني جديد يضمن ضبط إيقاع الصراع.
في الختام، من الواضح أن الشرق الأوسط بعد هذا التصعيد لن يعود كما كان قبلَه. فسواء سلكت الأطراف نهج التهدئة والعودة إلى المفاوضات، أو اندفعت إلى جولة جديدة من المواجهة المكلفة، تقف المنطقة اليوم على مفترق طرق خطير. ستعتمد معالم المرحلة المقبلة على مدى حكمة صناع القرار في كل من طهران وتل أبيب وواشنطن، وعلى قدرة القوى الإقليمية والدولية على ملء الفراغ الإستراتيجي الحالي بمنظومة ردع جديدة تضمن الاستقرار النسبي. وما بين خيار البرنامج النووي الذي تُصِرّ إيران على المضي فيه، وخيار المخاطرة الإقليمية الذي تبدو إسرائيل مستعدة لتحمله، يبقى التحدي الأكبر هو منع انزلاق الجميع نحو هاوية حرب لا تُبقي ولا تذر. الوقت وحده سيكشف أي السيناريوهات سيتحقق فعليًا، لكن الأكيد أن توازن القوى الإقليمي بات على المحك ويتشكل من جديد تحت ضغط صراع لم يشهد الشرق الأوسط له مثيلًا منذ عقود.